الحجُّ هو : القصْد إلى بيت الله الحرام ؛ لأداء عبادة مخصوصة ، ذات أفعال مخصوصة ، في أماكن مخصوصة .. والحج من العبادات التي قد يظهر للناظر المستعجل أن فيها مشقة وكُلفة .. محدودية المكان والزمان ، فلا يستطيع الحاجُّ أن يؤدِّيَ هذه العبادة إلا في مكانها المخصوص ، وزمانها المحدد لها .

Hajj is: going to the Sacred House of God; To perform a specific act of worship with specific actions, in specific places.. Hajj is one of the acts of worship that may appear to the urgent observer that there is hardship and cost in it.. The place and time are limited, so the pilgrim cannot perform this act of worship except in its specific place and time.


منافع الحج

الدكتور محمد ولد سيدي عبدالقادر

قال تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ [الحج: 27، 28] .

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على من أرسل رحمة للعالمين ، وعلى آله وأصحابه الهداة المهتدين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. وبعدُ :

فإن الحج إلى بيت الله الحرام عبادة جليلة، فرضها الله تعالى في كتابه الكريم؛ فقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]، وهو رُكْن مِن أركان الإسلام التي بُني عليها؛ قال رسولُ صلى الله عليه وسلم: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصَوْم رمضان)).

والحجُّ هو: القصْد إلى بيت الله الحرام؛ لأداء عبادة مخصوصة، ذات أفعال مخصوصة، في أماكن مخصوصة .. والحج من العبادات التي قد يظهر للناظر المستعجل أن فيها مشقة وكُلفة، ومن ذلك :

1- مشقة السفر، وفراق الأهل والأحبة والأوطان، وبُعد الشقَّة كما هو صريح قوله تعالى: ﴿ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27]، والحال أن الحاج لا يركبها ضوامر، وإنما بُعْد الشُّقَّة وطول الرِّحلة أضْمرَها وأنهكها، حتى صيرها كالأهلة.

2- حظْر ملاذ النفس وشهواتها أثناء التلبُّس بهذه العبادة، فلا ينكح المحرم، ولا يتطيَّب، ولا يلبس المخيط، ولا يرفُث، ولا يفسق، ولا يُجادل؛ انتصارًا لنَفْسِه.

3- محدودية المكان والزمان، فلا يستطيع الحاجُّ أن يؤدِّيَ هذه العبادة إلا في مكانها المخصوص، وزمانها المحدد لها.

ولما كان في الحج بعضُ مشقة، هوَّن الله أمره وخففه ويسره بتَيْسيرات عدَّة؛ منها:

1- أنه على المستطيع قوتًا وقوة: قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾ [آل عمران: 97]، وفي رواية لحديث أركان الإسلام المتقدِّم: ((وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً)).

2- أنه عِبادة قديمة فرَضها الله على مَن قبلنا؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ [الحج: 26 – 28]؛ وإذا عم الأمر هان وسهل.

3- أنه أيام معدودة قد لا تتجاوز الأسبوع لمن هو خارج مكة، فكيف بمن جاورها؟!

4- أنه لا يجب إلا مرَّة واحدة في العمر كله؛ لِمَا ثبَتَ في “صحيح مسلم”، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا، فقال رجل: أَكُل عام يا سول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلتُ: نعم، لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)).

5- أن الله عزَّ وجَلَّ علق القلوب بِحُب هذا البيت، وجعل الأفئدة تهوي إليه؛ استجابة لدعاء إبراهيم الخليل عليه السلام حين دعا لهذا البيت؛ فقال: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37]؛ والوصول إلى الحبيب ينسي كل عنَتٍ ومشقة.

6- أنَّ الله عزَّ وجلَّ علَّل الأمر بقصد هذا البيت بحصول المنافع للقاصد، حتى كأنَّه لم يأمره بهذا القصد إلا لتحصيل تلك المنافع؛ فقال تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ [الحج: 27، 28]؛ وقد نكَّر المنافع؛ لتعُمَّ كل منافع الحج الدنيوية والأخروية؛ “فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ [الحج: 28]؛ منافع الدُّنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرِضْوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع الذبائح والتجارات”، وكذلك قال مجاهد، وغير واحد منَ السلَف رحمهم الله.

وقال الطبري بعد أن ذكَر الخلاف في تعيين هذه المنافع: هل هي منافع دنيوية أو أخروية أو هما معًا؟ -: “وأَوْلَى الأقوال بالصواب قَوْلُ مَن قال: عني بذلك ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتجارة؛ وذلك أن الله عمَّ لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئًا من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت”.

وقال الزمخشري: “نكَّر المنافع؛ لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة؛ دينية ودنيوية، لا توجد في غيرها من العبادات، وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحجَّ، فلما حج فضَّل الحج على جميع العبادات؛ لما شاهد من تلك الخصائص”.

والذي دلَّتْ عليه هذه الآية هو أنَّ الله عز وجل جعل في الحج منافع؛ كأنه لم يأمر به إلا لتحصيلها؛ لِما تقتضيه اللام في قوله تعالى: ﴿ لِيَشْهَدُوا ﴾ [الحج: 28] من التعليل، ثم هي منافع للحاج خالصة، لا يشاركه فيها غيره كما يدل عليه التعبير بـ﴿ لَهُمْ ﴾ [الحج: 28].

وإنك لتعجَب من هذا الأسلوب الحكيم، وهذا الانتقال من تصوُّر حال الحاج، وهو أشعث أغبر، قد أُتِي به من فجاج الأرض، وأُنْهِك مرْكوبه؛ ﴿ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27]؛ ليفاجئك السياق قبل أن تتساءل عن سرِّ عبادة تكلف هذا العنَت الظاهر بأن هذه المشقة لا تفي بما جعل في هذه العبادة من منافع دنيوية وأخروية، تضرب لها أكباد الإبل، فلا يفي ذلك بشُكر التوفيق للخروج لها، والاصطفاء للتوفيق لأدائها، والفوز بمنافعها الجمة: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ [الحج: 28]، فتتساءل عن هذه المنافع في لَهْفة واشْتِياق.

وأنا في هذا المقال لا أستطيع تَعداد منافع عبَّر عنها الخالقُ بهذه الصورة العامة، ولم يحصرها ولا حصرها رسولُه صلى الله عليه وسلم في منافع محددة معلومة، وإنما يتم للمفسر الكشف عن تلك المنافع، بقَدْر ما يفتح الله له مِن فَهم في كتابه، وهو أمر متجدد لا يأخذ منه المتقدِّم ما هو مذخور لمن بعده، ويبقى النص الكريم على عمومه؛ ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ [الحج: 28] يغترف منه كلُّ وارد بحسب دلوه وسقائه، فلم يبقَ لي إلا محاولة التعرُّف على بعض تلك المنافع، مستدلاًّ على ما أذكره منها بما تيسَّر من معنى يُعضدها من كتاب الله عزَّ وجلَّ  أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فأقول ومن الله ألتمس العون والتسديد -: منَ المنافع التي تدخل في عُموم هذه الآية الكريمة المنافع الآتية:

أولاً: التوفيق لإكمال المسلم دعائم دينه؛ فإنَّ الحج رُكن من أركان هذا الدِّين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)).

ثانيًا: تعوُّد الانقياد والاستسلام لأوامر الله عز وجل وإن لَم يظهر لعقلك وجْه الحكمة فيها؛ فأنت أخي الحاج في هذا المكان المخصوص من بين بقاع الأرض كلها، ولأداء هذه العبادة في هذا الوقت المحدَّد لها، وتطُوف بهذا البيت، وتقبِّل هذا الحجر، وترمي الجمرات، كلُّ ذلك انقيادًا لأمر الله عز وجل بذلك؛ فيهون عليك تنفيذُ كلِّ الأحكام الشرعية، وإن لم يظهر لعقلك وجه الحكمة منها، وتنقاد لكل ما مِن شأنه أن يعليَ هذا الدين، وإن لَم يظهر لك أنت ما ظهر لغيركَ في ذلك.

ثالثًا: التذكيرُ ببعض الأمور المرْحلية التي سيمُر بها المرء لا محالة؛ كالموت، والبعث، والجزاء، فيعد لها العُدَّة اللازمة مِن زاد ومركب، ينجيه من مهالك الطريق، ويجنبه عثراته، وفي الحج صور مُصَغَّرة لبعض تلك الأمور المرحلية؛ فأنت بِخُروجك – أخي الحاج – من بلدك لابسًا ثوب الإحرام، وقد سكب الأهْلُ العبرات عند توديعك – تتذكَّر خروجك من بينهم من دار الدنيا إلى الدار الآخرة، خروجًا لا لقاء بعده في هذه الحياة، فيهون عليك هذا الخروج الذي ترجو بعده اللقاء والوصال، وتعد العدة لذلك السفر، كما تعدها لهذا السفر، وأنت بعدُ في مهلةٍ من أمرك، وبوقوفك بصعيد عرفة في هذا الجمِّ الغفير تتذكَّر موقفك في الحشر، حين يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، وتدنو الشمس، ويلجم الناس العرقُ، ويشتد الكربُ والخطب، فتعد العدَّة لذلك الموقف، وأنت ما زلتَ في مهلة مِن أمرك.

رابعًا: غفران الذنوب لِمن حجَّ هذا البيت مخلصًا لله في حجِّه، متبعًا أوامر الله، ومجتنبًا نواهيه؛ قال تعالى: ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ [البقرة: 203]، قال إمام المفسرين أبو جعفر الطبري – رحمه الله – بعد أن ذكر خلاف المفسرين في معنى هذه الآية -: “وأَوْلَى هذه الأقوال بالصِّحة قولُ مَن قال في تأويل ذلك: فمن تعجل في يومين من أيام منى الثلاثة، فنفر في اليوم الثاني، فلا إثم عليه؛ لحط الله ذنوبه إن كان قد اتقى في حجه، فاجتنب فيه ما أمر الله باجتنابه، وفعَل فيه ما أمَر الله بفعله، وأطاعه بأدائه ما كلفه من حدوده، ومَن تأخَّر إلى اليوم الثالث منهن فلم ينفر النفر الثاني حتى نفر من غد النفر الأول، فلا إثم عليه؛ لتكفير الله ما سلف مِن آثامه وإجرامه، وإن كان قد اتقى الله في حجه بأدائه حدوده، ثم ساق الطبري – رحمه الله – جملةً منَ الأحاديث الدالَّة على تكفير الحج للذنوب .

خامسًا: الفوز بالوُقُوف في صعيد عرَفة في ذلك اليوم العظيم، والمكان المشهود، عشية يدنو الرب – جل وعلا – فيُباهي بأهْل ذلك الموقف ملائكته، ويغْفر الذنوب، ويصفح عنِ الزَّلاَّت ويُحقق الآمال والمطالب، ويعتق الرِّقاب من النار؛ فعن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالتْ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يُباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟)) .

سادسًا: نفي الفقر والذنوب؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينْفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكيرُ خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة))؛ وأي مطلب للمرء أغلى من نفْي الفقر والآثام، ودخول الجنة دار السلام؟!

سابعًا: أن الحجَّ مَوْسم تجارة، وحصاد عالَمي؛ حيث المكان الذي تُجبى إليه ثمرات كل شيء؛ كما نطق به قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 57].

ثامنًا: أن الحجَّ مُؤتمر ديني كبير، فيه يجتمع المسلمون مِن كلِّ بقاع الأرض؛ لتأدية هذه العبادة العظيمة، فتمتلئ بهم الجبال والسهول، وتسيل بهم البطاح والأودية في موكب مهيب، هتافهم واحد، رغم اختلاف الأجناس والألسنة، فالكل يُرَدِّد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك؛ فتظهر بذلك مقومات وحدة هذه الأمة في تلاحمها، وتآزرها، وعبادتها، ولغتها، وهي العناصر الأساسية التي تحفظ للأمة قوتها وسيادتها وهيبتها بين الأمم.

تاسعًا: أن الحج موسم دعوي كبير، فيه يتوافَد المسلمون من كلِّ أقطار الأرض، فيجتمعون في أفضل الأيام، وأطهر البقاع، في جوٍّ من الرقة واللين، والانكسار بين يدي الله تعالى والاطِّراح ببابه؛ ليغفرَ الذنوب، ويصفح عن الزلات، ويُحقق الآمال، ويقيل العثرات؛ ومؤمن بهذا الحس لا شك أنه على أتمِّ الاستعداد لتحقيق ما يأمره به ربه، وكيف لا وهو إنما بذل المال وتحمل الصعاب من أجل أن يرضى عنه مولاه ويقبله؟! فعلى الدعاة المخلصين أن يغتنموا هذه الفرصة، ولا يضيعوها، فيعلموا الحاج – قبل أن يرجع إلى موطنه وتكتنفه شياطين الإنس والجن – أن الذي يغفر الذنوب هنا هو الذي يغفرها هناك، وأن المعبود هنا هو المعبود هناك، والذي أمر بالحج هو الذي أمر بالصلاة، والزكاة، والصوم، ونهى عن الربا، وكل المحرمات ما ظهر منها وما بطن، وأن الشعور بالأخُوة والتلاحُم والتراحُم هنا أمر مطلوب هناك.

عاشرًا: أن الحج مؤتمر سياسيٌّ كبيرٌ، فيه تلتقي كلُّ الفئات المؤمِنة مِنْ كُلِّ الطبَقات المفكرة السياسية الفاعِلة، فلو جعلت من هذا الموسم لقاء قِمم إسلامية فاعلة، يتباحَثُ فيها المجتمعون، كلّ ما مِنْ شَأْنِه أن يرفع الأمة منَ الحضيض الذي تعيشه إلى القمَّة السامقة – لما كانت الأمةُ على ما هي عليه مِن ضعْف وتأخُّر في كثير من الميادين، ولهم في ذلك أُسْوة حسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يلتقي في هذا الموسم بِمَن آمن به، فالتقى فيه بالأنصار ثلاث مرات، حتى كانت بيعة العقبة الكبرى، وما كان فيها مِنْ عُهُود ومواثيق غيرتْ مجْرَى تاريخ البشرية جمعاء، وهُم يومئذ قلَّة؛ كما في حديث جابر المتقدم: ثم بعثنا الله فأتمرنا، واجتمعنا سبعون رجلاً منَّا، فقلنا: حتى متى نذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف؟! فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة.

الحادي عشر: أن الحج مؤتمر اجتماعي فريد، يُرَبِّي في النفوس كل المعاني الاجتماعية التربوية؛ ففيه ترى التعاوُن والمواساة، وحنو الغني على الفقير، ورحمة القوي بالضعيف، والكبير بالصغير، والتجرُّد الكامل من مظاهر الفوارق الطبقية الدنيويَّة، فالكلُّ في صعيدٍ واحد متَّجه إلى الله عز وجل بكلِّ ذُل وفقر وحاجة، قد خلع الجاه والأَوْسِمة والمناصب الدنيوية؛ فتذوب تلك الفوارق ولو إلى حين، فيستفيد المسلمون مِن دُرُوسها العِبَر والتوجيهات التربوية الفريدة.

وفي الحج يجتمع هذا الحشدُ الهائل من كل طبقات الناس وأجناسهم، فتزدحم بهم الطرقات، وتغص بهم الأماكن العامة والخاصة، ومع ذلك فلا شجار، ولا جدال، ولا رفث، ولا فسوق، ولا تنافر، فالكل مبتَسم لأخيه، فرح بوجوده إلى جانبه في هذه العبادة العظيمة، فلا تسمع إلا قول قائلهم عن هذا البيت المزدَحم بالناس: “زاده الله شرَفًا”.

وفي هذا الجو المفعم بروح الأخوة والتلاحُم والإيثار، يراجع المرءُ نفسه، ويتخذ من خلقه فيه خلقًا دائمًا مع إخوان له، طالما ضاقَ بهم في أماكن أقل ازدحامًا وتعبًا، وفقراء طالما ضنَّ عليهم بأقل مما أنفقه هنا.

تلك هي أهم المنافع التي سنح الخاطر المكدود بتسجيلها، ويبقى التعبير القرآني أشمل وأوسع، وتبقى المنافع الدنيوية والأخروية أعم؛ ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ [الحج: 28]، وقد يدرك المرء في ذلك من المنافع الفردية ما لا يدركه غيره من توفيق لذكر الله في تلك الأماكن الفاضلة أكثر من غيره، أو توفيق لدعاء يسمع ويُستجاب، أو إغاثة لملْهوف، أو إعانة ضعيف، أو إطعام جائع، أو إرشاد ضال، أو تعليم جاهل، إلى غير ذلك من المنافع العظيمة، التي جعلها الله عز وجل في هذه العبادة العظيمة، ومن هنا يمكننا أن ندرك معنى ما رُوي عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله من أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلمَّا حج، فضَّل الحجَّ على العبادات كلها؛ لما شاهده من تلك الخصائص والمنافع.

رابط المقال الأصلي : هنا


تضم المكتبة المدنية التعليمية بين طياتها العديد من الكتب العامة والمقالات المتنوعة وأقسام خاصة بالمحتوى التعليمي والإثرائي لمختلف الفئات العمرية المنتقاة بعناية لترقى لذائقة المثقفين والمثقفات والمهتمين بالتعليم في الوطن العربي والإسلامي .